المصطفى الفادي يكتب: جماليات القصة القصيرة جدا..”حريق” لفيصل أبو الطفيل أنموذجا

المصطفى الفادي يكتب: جماليات القصة القصيرة جدا..”حريق” لفيصل أبو الطفيل أنموذجا

اقلام واراء

 

حريق

وحيدا في شرفته، يقاوم عباب عزلته، يشعل سيجارته الصباحية على مهل، ويفتح الجريدة ليقرأ: “حريق مهول بمهرجان عرض الأزياء..لا خسائر في الأرواح”.. هم بقلب الصفحة، انقلب سطل التصبين من يد الجارة لا عاصم من الماء..نظر إليها شزرا وقال: الآن انطفأ الحريق !.

 

تتميز القصة القصيرة جدا بوصفها جنسا سرديا بالاقتصاد اللغوي وكثافة المعنى؛ ذلك من خلال التوظيف القوي لآلية التكثيف والترميز والحذف والإضمار… مما يستدعي من القارئ الاعتماد على التأويل الذي يعد وسيلة فعالة لحل شفرات هذا الجنس السردي والبحث عن المخفي والمغيب فيه، بهدف بناء معانيه وكشف جماليات دلالاته.
إن أول ما يثير انتباهنا في هذه القصة القصيرة جدا هو العنوان، بوصفه عتبة أساسا لولوج عوالم النص وملء بياضاته التي يكون فيها المتلقي/المؤول له دور محوري في ذلك، حيث نجد أن كلمة ” حريق” جاءت مفردة نكرة، فهي لا تدل على أمر بعينه. مما يجعلنا نتساءل عن نوع هذا الحريق، هل هو حريق مادي يتمثل في إضرام النار أم هو حريق بمعناه غير المادي؟ الذي يشير إلى الاحتراق النفسي والعاطفي؛ بحيث يمكن أن يكون صاحب النص يمر بفترة ممتدة من التوثر نتيجة ضغوط نفسية مرتبطة بتحقيق هدف معين.
نلاحظ بعد قراءتنا للنص أنه يستهل بعبارة “وحيدا في شرفته” مما يحيل على أن صاحب النص لم يكشف لنا عن هذه الشخصية التي تعاني الوحدة والفراغ ربما جراء أزمة نفسية أو عاطفية. لكنه يجاهد هذا الفيض من العزلة التي اعتاد عليها، وهو ما تشير إليه عبارة ” يقاوم عباب عزلته”. الشيء الذي يجعلنا نتبين بأن شخصيته قوية رغم كل ما يمر به. غير أنه يلتجئ إلى السيجارة كأنيس غير إنساني ما يبرز عدم رغبته في رؤية أي شخص، وأن هذه الأزمة التي يعيشها سببها الإنسان. “يشعل سيجارته الصباحية على مهل ويفتح الجريدة ليقرأ”.
هو إذا شخصية مثقفة مداومة على فعل القراءة خصوصا في الفترة الصباحية. فتكون جريدته المفضلة مقاما للأنسة والصحبة؛ حيث يكون الذهن صافيا والذاكرة منفتحة بعد ليل مشتعل بنار الولع والشوق والحب. وهو ما يؤكده الخبر الذي يصادفه بعد فتح الجريدة “حريق مهول بمهرجان عرض الأزياء.. لا خسائر في الأرواح”. فصاحب النص لم يفصح لنا عن الأسباب الحقيقية وراء هذا ال”حريق” لكنه أشار إليه من خلال هذا الخبر الذي يرمز إلى طبيعته. بحيث يمكن أن يكون مرتبطا بإنسان كان سببا في إضرام هذه النار -نار الحب- فعرض الأزياء بسجادته الحمراء التي ترمز إلى النار التي كانت سببا في اندلاع الحريق، من خلال مرور عارضات الأزياء فوقه واحدة تلو الأخرى. فيشعلن السجادة/النار بجمالهن ولباسهن… ما يشير إلى أن إحدى النساء كانت سببا في حريق مشاعر وأحاسيس هذ الشخصية. لكن رغم ذلك كله فليست هناك خسائر في الأرواح. الشيء الذي يمكننا من خلاله القول بأن هذه الشخصية قد نجت من حريق الحب والولع بسلام. وهو ما تؤكده عبارة “هم بقلب الصفحة” في إشارة إلى الرغبة الجامحة في نسيان الماضي المشتعل/المحرق.
استعان الكاتب ليهمد ويخمد هذا الحريق العاطفي بعنصر الماء كرمز للتطهير النفسي والصفاء الروحي. حيث يقول: ” انفلت سطل التصبين من يد الجارة.. لا عاصم من الماء”. مما يجعلنا نتساءل. هل هناك حريق آخر تأجج غير حريق السيجارة، وحريق مهرجان عرض الأزياء، وحريق عاطفة الشخصية؟ إنه حريق الجارة التي ربما كانت تراقبه دوما من بعيد/قريب فاشتعلت نارهما ولعا وحبا. وهذا ما تؤكده القفلة الحوارية التي خيبت أفق انتظار القارئ. ذلك لأن الحريق انطفأ بدون رغبة منهما “نظر إليها شزرا وقال: الآن. انطفأ الحريق!”.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن هذه القصة القصيرة جدا. استطاعت أن تستفز كفاءتنا القرائية والـتأويلية؛ ذلك من خلال ما تضمنته من ترميز وإيحاءات خصبة، ودلالات وافرة، عكست بحق جماليات هذا الجنس السردي الذي يقصف بالكلمات والصمت بهدف انفجار معناه ودلالاته التي تختلف من قارئ لآخر.

 

المصطفى الفادي

Related posts