الكتابة التاريخية في السينما و التلفزيون

الكتابة التاريخية في السينما و التلفزيون

اقلام واراء

         

 

 

يتناول كثيرمن الكتاب مواضيعهم، انطلاقا من كتابات جاهزة، أو بناء على معلومات محفوظة، و أحيانا يكررون كتاباتهم بأشكال مختلفة و أساليب لفظية مغايرة . في اعتباري المتواضع لا يمكنني أن أعتبر هذا النوع من الكتابة كتابة حقيقية ، بل أقول أنها من أسباب توسيع دائرة الأسماء، حتى أصبح في كل درب كاتب و أصبحنا لا نستطيع اختيار المادة المكتوبة أمام الكم الهائل الذي لا فائدة منه غير كثـرة العناوين ، وهو كذلك من أسباب عزوف القراء وابتعاد الناس عن شراء الكتب .

الكاتب هو من يتحمل مسؤولية  طرح مشروع ، يدافع عنه ، يناقشه ، يحلله ، و يقدم الدوافع التي جعلته ينتقيه من بين مجموع مظاهر و ظواهر الحياة الإنسانية للناس ثم يعرض للجميع منتوجه الفكري في حلته الورقية ، وقد تحمل عبء البحث و الدراسة من أجل الخروج بكتابة تدافع عن فكرة أو ظاهرة إنسانية أو نظرية جديدة تدعو إلى تصحيح شيء مما يراه الكاتب زائغا عن حقيقته ، وقد يكون أيضـــــا دعامة لقاعدة أو تذكيرا يؤكدها .

 هكذا سنتناول موضوعا من الأهمية بما كان، تحت عنوان بارز و عريض: “التاريخ في السينما والدراما، صعوبات في الإنتاج و تشكيك في المصداقية “، لم نتطرق للموضوع مـن حيث كونه نوعا من الكتابة المتكررة، ولكن سوف نطرحه موضوعا بالتحليل والدراسة ، نناقش من خلاله مجموعة من الإشكالات التي تعيش على فطريات تعيق التطور المرغوب في السينما و الدراما . طالما أصبحــــت الصورة الأقرب إلى الناس من كل الأنواع الأخرى التي لها علاقة مباشرة بالكتابة المنشورة كتبــــــــــــا أو مقالات أوعلى شكل كل أصناف الكتابة قديمها و جديدها . يجب أن نفهم الحياة الإنسانية الآنية فهمــــا سليما، يتسم بمواكبة الاجتهاد الإيجابي لكل المعاملات بين الناس أفرادا و جماعات ، وبالتالي البحث عن العيش في انخراط تام مع هذا التطور العلمي السريع للمجتمعـات، لذلك نشجع  اعتماد الصورة في كتابة التاريخ عوض الإلتزام به مكتوبا على الورق . إن المشاهد يمكنه التعرف على الماضي من تاريــــــــــخ الإنسانية بسهولة تامة من خلال فيلم سينمائي أوعمل  تلفزيوني  أيا كان نوعه ، وهذا ما لا تنتجه القراءة في قليل من الوقت بل يحتاج القارئ إلى كثير من البحث و التنقل و المطالعة   .

غير أن الكتابة التاريخية لابد لها من مراجع من اجل تدقيق الأحداث و الشخصيات و التأكد مــــــن الحقب و ظواهرها ،إذ لابد من احترام جوهر الموضوع التاريخي: حدثا، شخصية، و زمكانا  و هـــــــي المكونات الثلاث الأساسية التي تحفظ أمانة النقل  التاريخي في الكتابة، لهذا لا نخفي أن التاريخ قد تكون قد اعتلته بعض علل الزور أو المبالغة داخل مراجعه الجاهزة ، مما يوجب على كاتب التاريخ للسينمــــا و الدرامــا أن يعرف كيف يميز بين الوقائع و الحقب من جهة و من أخرى بين ماهو منطقي من غيـــره داخل كل حقبة تاريخية معينة، لأن الكاتب للصورة كما كان سابقه للورق قد يسقط في زلة المبالغة فــــي الإبداع بإضفاء بعض صفات الكمال على الشخصية البطل، والواجب هنا  لا يمكن أن يسقط في مثل هذا الخطإ  لما للصورة من وقع كبيرعلى المتلقي الذي يتبناها بشكل مباشر قد يعيشها وإن خيالا في وقتنـــــا الحاضر .

     نؤكد إذن على ضرورة الكتابة التاريخية السينمائية بأمانة ، لأنها أصبحت حاجة ماسة  للجميـــــع ، فقط يتعالى صوت بعض همم الماديين، الباحثين عن سينما الشباك سواء بأداء التذكرة أو بنسب المشاهـدة الفارغة، أمام الخطو التقدمي لهذا النوع المفيد من الكتابة ، و تلامذتنا هم في أمــــــس الحاجة إلى تلقيهم دروسا عبر الشاشة و منصات العرض ، فدروس التاريخ و الجغرافيا بل حتى الدينيــة و اللغويــــــــــــة و العلمية تحتاج  إلى صورة متحركة توقظ فيهم حواس الرغبة في اكتساب المعرفة العلمية و الأدبيـــة ، كما تفتح أمامهم حقائــق الماضي . و أمام صعوبة نقل هذا الماضي التاريخي بأمانة تنجلي إشكاليـــــــــة التشكيك في مصداقية المصدر، لذلك نؤكد على البحث الدقيق من أجل موازنة الأحداث و الشخصيـــــات والحقـب ، حتى نمرر إلى الآخر خبرا تاريخيا منطقيا يقبله عقله، بعيدا عن السقوط في متاهة الأسطورة و الخرافـة التي تجعل البطل خارقا للعادة. البحث الدقيق  يقيد الكاتب في نقل الحدث بعناصــــــره ،  ولا يترك له مجالا للإبداع إلا فيما تعلق ببعض الجوانب الحياتية التي لا تمس الجوهر في شيء، لأن الحدث قد يكون ثابتا ، لكن السينما تتطلب منا الانتقال بين اللقطات داخل المشاهد المتتالية ، و في ذلك إبداع في الخيال ونسج محيط الكتابة دون القفز عن المقاربة المنطقية في العلاقات المجتمعية  التي قد تجمع الحدث مـن حيث شخصيته بباقي عناصر المجتمع آنذاك .

       ” التاريخ في السينما و الدراما، صعوبات في الإنتاج و تشكيك فـــي المصداقيــــــة ” نتناول الموضوع بتفصيل في شق ثان، متطرقين لدلائل من خلال قصص  مجموعة من المسلســـــــلات التلفزيونية، التي تناولت تاريخ الأمة الإسلامية من خلال بعض الشخصيات التي تركت بصمتها فــــــــي المجتمع آنذاك، إما في علاقتها بكراسي الحكم أو إنجاز البطولات في الحروب أو نسج علاقات إنسانيـــة في الحب بين الرجل والمرأة. هكذا يدافع كاتب التاريخ عبرالصورة السينمائية / التلفزيونية عن مشروعه الأدبي/ الفني بكل ما يؤتى من حجج، يستنبطها من محيطه المجتمعي بفعل احتكاكه  بالناس فـــــــــرادى و جماعات و اهتمامه الفني / السينمائي مستعملا منطق فهم حدود تصرفات الناس خلال حقب تاريخيـــة ماضية ، لتلجيمها حسب القدرة الإنسانيـة حيث لا مجال للمبالغة في وصف الشخصية أيا كان موقعهـــــا داخل منظومة المجتمع .

      إن المهتمين في الحقل الفني يعانون من صعوبة أخرى في إنتاجاتهم التاريخية ، وهو ما يمكــــــــن الإشارة إليه فيما يخص الإنتاج . حيث تحتاج الكتابة التاريخية للسينما موافقة في الإبداع الإخراجــــــي ، و أول ما يعترض المنتج هو توفير مكونات إطارالصورة المناسبة للحقبة التاريخية المعينة . الشيء الذي يثقـل كاهل فاتورة الأداء ويزيد من المتطلب المادي . يحتاج العمل الفني التاريخي إلى شخصية مشخصة تستطيع الانسجام مع وضع الحدث التاريخي وإلى لباس خاص يتماشى و الحقبة التاريخية و كل اللــوازم الأخرى التي تؤثث المشهد و التي تتمم مكونات إطار الصورة من الجدار و الأرضية و الأفرشــــــــــــة و الأواني المستعملة … كل هذه الحاجيات تشكل عائقا ماديا كبيرا من أجل توفرها ، لأنها في كثيـــــــــر الأحيان يعاد صنعها و صياغتها، وهو ما يجعل البحث عن فنانين  من مجالات أخرى لتولي هــــــــــــذه الصناعة الضرورية من نحث و رسم و بناء و تشكيل كل اللوازم المندثرة حياكة أو صناعة …

     لذلك يعد إشكال الإنتاج لدى عدد من المهتمين هو الحجرة العثراء الأكثـــر فعالية في حصر الإنتاج التاريخي للسينما و التلفزيون ، إلى جانب انشغال  المتلقي بالمشاهدة غير المجدية عبر هاتفه النقال أو ما يحرك شدقيه من فكاهة سطحية موسمية عبر شاشة تلفزيونية/هاتفية، إذ لم يعد يقدرعلى اختيار مشاهدته أمام الكم الهائل المنهمر عليه من كل القنوات العمومية و الشخصية . ولتفاد ذلك لابد من إعادة توليـــف المشاهد متابعة البرامج التاريخية و الوثائقية ، ومنها كذلك الأفلام و المسلسلات كما هو في سالف الحقب و لتحقيق هذا التوليف مرة أخرى يجب على الجهات المعنية أن تهتم أكثر بهذا النوع من العطاء الفنـــــي و أن تحقق له ما يحتاجه في صناعته الفنية ، وأن تشجع الكاتب على تخصيب الكتابة التاريخية ، خاصة و أن كل الخلف هم في حاجة إلى معرفة تاريخ السلف بعيده وقريبه ، لكن بأمانة في النقل، وبنوع مــــن المصداقية ، وبدون مبالغة في الوصف ،وبإبداع منطقي يبعدنا عن تخيل الأجداد كانوا أبطالا خارقين في حياد تام عن الأسطورة الخرافية .

       و من هذا المنطلق يمكن جعل هذا المنتج الأدبي / الفني إضافة إيجابية للخزانة السينمائية ، التــــي لازالت في حاجة لتكثيف عطاء الكتاب خاصة في مجال التحليل و الدراسة . لأننا نفتقر إلى الكتابة التــي من شأنها مناقشة الإشكال و طرح بديله . هكذا تظهر هوة الفرق بين كتابة تكرر المعلومة ،و أخـــــــرى تجعل منها لبنة للتطور و تقدم المجال . فالتاريخ من المواضيع التي لم يتطرق إليها الكثير، بالرغم مــــن كونه مادة لينة على القلم ، لكن تحوم حول الكاتب شبكة من العراقيل التي تقزم كتابته إن لم تعد بهـــــــــا للصفر، تجعلها تفقد حلاوة سردها بالأمانة المطلوبة ، هذه الشبكة يؤكدها عنوان المقال عبر نقطتيــــــــن شاملتين: التشكيك في مصداقية المراجع و صعوبة الإنتاج . هاتان النقطتان تضمان مــــــا يزيد سلبيتهما فـي الكتابة التاريخية الفنية : سينمائية وتلفزيونية ، والتشكيك في المصداقية يتشكل مـــــــن خلال  مجموعة من الدوافع ، منها السياسية وغيرها التي لها دور مباشر في قلب التاريخ نقصــــــــــــــا أو تضخيما ، حدث ذلك في كثير من الحقب الماضية . كما كانت للحروب دورا كبيرا في طمس معالــــم التاريخ ، الذي بقي يروى عنعنة، وهذا قد يحدث فيه تغييرا مع مرور الوقت و الزمان ، إذ هناك كثيــــر من كيف الحدث التاريخي حسب حاجته و مكانته في المجتمع . أما الإنتاج في وقتنا الحالي له علاقـــــــة مباشرة بالاستثمار، فقد مكانته أمام ظهور كتابات جديدة / خفيفة تدغدغ إحساس المتلقي ، حيث أصبحـت التفاهة تصله بسرعة كبيرة لخفتها و سرعة إنتاجها ، فهي من تفرض وجودها ولو لم يرغب فيها، لكـــن رفيقه الهاتف يحتم عليه الانخراط في التعرف و المشاهدة، لأن التفاهة تظهر له مع أي تطبيق ولجــــه ، وتضيق الخناق أمام كل عمل هادف، إذ لا تبقي مزيدا من الوقت للمتلقي كي يبحث عن غير ما يصلــــه دون عناء بحث . وهذا ما لا يكون مع العمل التاريخي الذي يحتاج إلى جهد مضن  في الكتابة ، ويحتاج إلـــى ميزانية كبيرة ، و إلى حقل عمل كبير ، ليصل إلى عرض خاص يصل إلى الجميع، لكن بالبحـــث و بالرغبة الأكيدة في متابعته .

     جميل أن نعرف  إيجابية الكتابة التاريخية للسينما و التلفزيون ، و أن نناقش صعوبتها ، ونحلـــــــــل بعضا مما قد يصيب الأحداث و الشخصيات من مبالغة في الوصف، داعين إلى كتابة ملتزمة ، أمينــــــة  تتوافق مع الحقبة الزمكانية و القدرة الإنسانية ، و فـي مقابل ذلك نؤكدا على الاهتمام بها والرجوع إليها لأنها تعتبر المنفذ الوحيد الذي نطل منه على التاريـخ. كما هي الصورة الآن تعتبر الخزانة الأمثل لحفــظ  تاريخ الأمم و الشعوب إضافة إلى دورها في التعلـم و اكتساب المعرفة لدى كبير السلف و صغيره  .

 

 

     محمد مجاهد(ناقد سينمائي)

Related posts