الدكتور الحبيب ناصري في قراءة لكتاب “حزايه” للدكتور سمير الضامر

الدكتور الحبيب ناصري في قراءة لكتاب “حزايه” للدكتور سمير الضامر

 

كبر وبقي حاملا أثر جدته السردية بين أحشائه

الضامر يقبض على زمنه الشعبي السعودي العربي وتتلذذ طفولته بالحكايات

 

تقديم

النبش في الذاكرة العربية السعودية الشعبية بشكل عام، والأحسائية على وجه الخصوص، من خلال الموروث الثقافي الشعبي، يشكل مرحلة مهمة من البحث العربي في الثقافة الشعبية ككل، باعتبارها ثقافة منسية و”مدنسة” في نظر البعض وغير “عالمة” في نظر البعض الآخر، بل وفي نظر فئات أخرى، تعتبرها “لحظوية” لا قيمة لها، مع العلم، أننا نعيش زمن عولمة “تطحن” كل من يفرط في ذاكرته المحلية الشعبية، بل وفي زمن لن يبق شامخا فيها، سوى من “عض” على “احزايه” جدته ورسم بها خريطة طريق بحثية، بها تخصب علمه وبحثه وذاكرته وتحققت إنسانيته وكونيته.

ماذا لو لم ترو عايشة بنت صالح الفرحان لحفيدها سمير الضامر حكاياتها؟. ماذا لو تخصص الحفيد، في الطب أو الهندسة أو التجارة، الخ، وترك جدته تحمل جرح الحكايات لوحدها، دون أن تجد حفيدا تحكي له ما حكت؟.بل ماذا لو لم يعش الحفيد وسط عائلة عاشقة للموروث الثقافي الشعبي؟.لنؤزم السؤالين السابقين بسؤال آخر :

لماذا كانت الجدة عايشة بنت صالح الفرحان سخية في عطائها الشعبي، وهي المرأة البسيطة الشعبية، ولم يسبق لها أن نهرت حفيدها المتعطش لفهم كل حمولات الحكايات الشعبية بما فيها  منطقة “الممنوع”، في حين تذمر منه أستاذ جامعي وقال له في وجهه :

وأنت كل شي تبي تعرفه؟.

قراءة في عنوان وغلاف المؤلف (مجرد عناصر أولية)

كتاب من مائتي وثلاث وخمسين صفحة، وهو من الحجم المتوسط، وقد صدر عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع بالدمام بالمملكة العربية السعودية سنة 2020. عنونه صاحبه، الدكتور سمير الضامر، بعنوان رئيسي بلون أخضر غليظ “احزايه” وأتبعه بعنوانين فرعيين صغيرين كتبا بلون أسود، وهما، “ما روته عايشة بنت صالح الفرحان لحفيدها سمير الضامر”و”ومعجم الرواة والمرويات الشعبية”. فرع العنوان الثاني الفرعي من العنوان الأول المركزي، وقد فرع العنوان الفرعي الثالث من العنوان الفرعي الثاني عن طريق تسعة خطوط خضراء موجهة في اتجاهات متعددة (كأنها شظايا الاحزايه التي أصابت الطفل سمير وأرجعته “أسير” ركن جدته الليلي).

وجه غلاف المؤلف منح وفي ثلثيه تقريبا للجدة (عايشة بنت صالح الفرحان)، من خلال صورة قربتنا من  صدر الجدة (مهوى القلب الذي منحته لحفيدها وهي تحكي له). وتم التركيز داخل هذه الصورة، على اليدين الجميلتين المطليتين بالحناء. الجدة في الصورة  (ومن خلال ما التقط)، تبدو في أبهى فرحها وهي بنت صالح الفرحان، بل وتبدو راغبة في العيش وهي المسماة عايشة.الحلي والحناء واللون الأحمر المهيمن على الصورة،الخ، عناصر جمالية، تحيل على عنصر الخصوبة في ذاكرة الجدة التي لولاها ما كان للحفيد أن يقبض على أزمنة وأمكنة ووقائع وشخصيات، الخ، “احزايه” الجدة، ويتخصص في تجميع وتحليل وتأويل كل هذه المتون الشعبية الواردة في هذا المؤلف وفي غيره من مؤلفاته المتخصصة في هذا المجال. طبعا لغة ودلالات الألوان حاضرة في هذه الصورة من خلال ثنائية اللون الأخضر (الدال على ما هو ديني روحي/لون من ألوان الجنة)، والأحمر المحيل على الدم والحياة والحب والجاذبية، الخ)، والأشكال الهندسية التي نقط بها لباس الجدة، والمحيلة على تشعبات الحياة/الحكاية)، مما يجعلنا ومن خلال هذين اللونين، نستحضر مدى قدرة “احزاية/الجدة” على الجمع بين زمن الدنيا والآخرة، وكيف أن الحكي الشعبي برمته كلما تغلغلنا في ثناياه، ضمن لنا هذا التوازن العجيب الذي يؤكد انسانية المحكي الشعبي ومنذ القدم، ومن هنا، نقر، أنه حاجة إنسانية وضرورة من ضرورات الحياة، بل السؤال المخلخل لكينونتنا، ماذا لو لم تكن الاحزايه؟.

تحليل صورة الجدة في الغلاف، يفرض نفسه، لأنه يمارس “سلطة” إنسانية علينا جميعا، لنستحضر جداتنا، ويجعلنا نعض أصابعنا، على كوننا لم ندون ما كانت ترويه لنا، بل الصورة تجعلنا نندم على زمن الجدة الذي أضعناه اليوم، ولم يعد لها ذلك الحضور في ركن من أركان البيت، في زمن عولمة بضعت الحياة والانسان، بل ضبعت الجمال وشجعت التفاهة.

طبعا، حضر الحفيد ومنذ البداية ليس ككاتب لهذا الكتاب، وهو ما نجده وبلون أخضر في أعلى الغلاف (الوجه الأول)، بل تمكن الكاتب من توثيق اسمه كحفيد في العنوان. توثيق الحفيد هنا، هو توثيق للسارد/الطفل الذي سيحكي لنا ما روته الجدة الراوية، مع حضور رواة آخرين ومرويات عديدة على طول المؤلف الذي صيغ بلغة جميلة جذابة مارست بدروها جاذبية/سلطة على متلقيها، انتشلته من زمن “الأنا” الاستهلاكية اليوم، ورمت به في زمن “الأنا” الحكاية الشعبية التي أبدعها الإنسان الجمعي دون التفكير في ملكية فردية رأسمالية متوحشة.

في خلفية غلاف المؤلف، أي الوجه الثاني الخلفي، تحضر صورة الحفيد بلغة الأبيض والأسود، ويثير انتباهنا، عيون الطفل المحيلة على عوالم جوانية داخلية كانت تستمتع بالحكاية الشعبية. سؤال عميق يتردد وأنا أقرأ ما قدمه سمير الضامر الرجل عن سمير الضامر الطفل؟. من أبدع الآخر؟. ما كان لسميرالضامر الباحث أن يكون لولا سمير الضامر الطفل؟. وما كان لسمير الضامر الطفل أن يكون لولا عايشة بنت صالح الفرحان. إنها الجدة التي أبدعت الطفل والباحث معا. هذا الاسم المكون من ثلاثة عناصر (عايشة وصالح وفرحان)، يحيل فعلا، ولغويا/دلاليا، على العيش والصلاح والفرح. دلالات مكنت الجدة من الحلول في عمق سمير الضامر، عن طريق سمره مع جدته، التي استطاع فيما بعد أن يكتشف ما أضمرته مرويات جدته (الكاتب بدوره يحيل اسمه على السمر والاضمار)، بل وحتى وهو يقترب من منطقة “المحرم” أو وهو يطرح السؤال “الفلسفي” الطفولي البسيط/العميق  حول بعض محتويات احزايه الجدة، كانت هذه الأخيرة حكيمة معه، لاسيما وأنها ترد عليه بجواب “ينقال”.

يبدو، أن القدر الإنساني، حتم الجمع بين الجدة والحفيد، لولادة هذه المرويات الشعبية التي بها حققا وجودهما في هذه الحياة، وجعلتني “أنا” القارئ البسيط، استمتع بهما معا في ركن من أركان مكتبتي، بل وهما معا وما رووه، حضروا معي طيلة سفري هنا وهناك. ماذا لو لم تمارس الجدة “سلطة” الحكي على سميرها/حفيدها، وعاش بعيدا عنها، بل ودرس وتخرج مهندسا أو طبيبا أو تاجرا، الخ؟. هل كنا نحن كقراء سنستمتع بما جمعهما معا؟. لا داعي للجواب، لأن عولمة هذه الحياة، وإذا ما استسلمنا لها، ستجردنا من كل قيمنا الانسانية الجميلة، وتحولنا إلى مجرد أرقام استهلاكية “مقولبة” وفق هواها ووفق البحث عن الربح حتى في “ألمنا” و”مرضنا” و”موتنا”.

هذا الجمع ظل حاضرا على امتدادات عديدة للكتاب، بل وحتى في الوجه الثاني للغلاف وحينما أحضر الكاتب (الرجل) صورة الكاتب (الطفل)، أحضر جدته من خلال التعريف بحزاوي (حكايات) جدته باعتبارها تتضمن “بنى أسطورية عميقة، كأساطير: الولادة من الفخذ، وإنجاب المرأة للطيور، والمسخ، والولادة من جنس الرجل، والعالم السفلي…”. تعريف وجيز ودقيق لكل ما روته الجدة وغيرها من رواة آخرين في هذا المؤلف، وقد ورد هذا التعريف بقلم الكاتب.

يبدو، أن الجدة قد فعلت فعلها بسميرها/حفيدها، وجعلته يشد الرحال نحو الجامعة ليتخصص في هذا المجال الثقافي الشعبي والذي به اليوم يحقق شرط انسانيته وانسانية غيره.من هنا تحققت قيمة الكتاب ومن كتبه ومن حكى وما حكي، الخ.

حول مضامين الكتاب

بعد البسملة الوارة في الصفحة الثالثة، سينقلنا الكاتب في  الصفحة الرابعة إلى خمسة مقتطفات دالة ومعبرة .

المقتطف الأول

للجاحظ وهو يتحدث عن قيمة وأهمية الخبر والإخبار وحلاوتهما، الخ، وكما ورد في رسائله (1/143-144)

المقتطف الثاني

لديكسون من “الكويت وجاراتها(1/64) والمقتطف المأخوذ هنا يتحدث عن الهفوف (أرض  إبراهيم ) والذي زارها وجمع منها العديد من الروايات الغريبة.

المقتطف الثالث

عن رواية الجنية للدكتور غازي لقصيبي (33) يحضر الكاتب، ومنها، ما يلي :

“هناك الجنية الأشهر في منطقة الأحساء “أم السعف والليف” كان كل طفل حساوي يرتعد في فراشه كل ليلة وهو يسمع حفيف “أم السعف والليف” وزفيفها”.

المقتطف الرابع

وهو للجدة عايشة  الحاضرة بشموخ مع الكبار بل هي كبيرتهم ورائعتهم .

“خيال الخيل وأنا بنت صالح”

المقتطف الخامس

 وقد سمعها سمير الضامر عن الأستاذ  الكاتب المسرحيعلي السعيد وقد سمعها بدوره عن فنان حساوي قديم:

“الحياة احزايه واحنا غنيناها”.

طبعا الغاية من هذه المقتطفات، تأطيرفكرة/هدف المؤلف، وكيف من الممكن قراءة بعض أبعاد ما قدمه هنا من خلال طبيعة هذه المقتطفات ذات الدلالات المتعددة والمؤطرة لطبيعة جزء مما يسعى إليه الباحث في مؤلفه هذا. هي مقتطفات مختارة من أجناس فصيحة  (عالمة/مقدسة) وشعبية (عامية/مدنسة)، مما يولد لدينا الانطباع أن لذة الإبداع هي القاسم المشترك بين هذه الأجناس. فما الذي جعل الجاحظ يجاور الجدة عايشة، على سبيل المثال، في هذه المقتطفات؟. إنها متعة الخبر والاخبار. المتعة التي هدمت الحدود بين الأجناس الأدبية العالمة والشعبية. بل على الناقد، وكما ذهب إليه الناقد الفرنسي جون إيف تادييه في مؤلفه “القصة الشعرية”، أن يكون مدمرا للحدود الفاصلة بين الأجناس ككل.

بعد هذه المقتطفات، سينقلنا الكاتب، في الصفحة الخامسة، إلى تقديم شامخ لعائلته الكبيرة والعريقة والضاربة في سماء القدم، والتي أنجبت الطفل سمير العاشق للحكاية والسمر، والذي عاش في حضن أجداده وجداته و” شغف بحزاويهموسواليفهم الشعبية، ومن هنا كان الكتاب”. تقديم هذه العائلة جاء بدوره بلغة الحكاية الشعبية (احزايه) حيث قال في الصفحة المشار إليها سالفا، والتي عنونها بعنوان دال، وهو في البدء كانت الحزايه (الحكايه):

“كان يا ما كان في قديم الزمان، تزوج صالح بن عبد الله الفرحان من: نوره بنت عيسى الحسين، وأنجب منها ولدا وبنتا، الولد اسمه عبد الله والبنت اسمها عايشة، ولما كبر عبد الله تزوج من: منيرة بنت أحمد الفايز، وأنجب منها أولادا وبناتا ومنهم نعيمة، وأما عايشة فقد تزوجها عبد الله بن خالد الضامر وأنجب منها أولادا وبناتا ومنهم عبد الرحمان، تزوج عبد الرحمن من: نعيمه، وأنجب منها أولادا وبناتا ومنهم : سمير”.

بعد هذا، سنجده في الصفحة السادسة يتساءل عن الحزاية؟. ليجيب بأنها “مفردة شعبية مشهورة في الأحساء وعموم بلدان الخليج العربي، وهي نوع من الأدب الشعبي يقصد به سرد الحكاية الشعبية والسواليف. وكانت جدتي “تحازينا” أي تسرد لنا الحزاوي وتقصها علينا، وكنا نقول لها : جدتي عطينا احزايه، أي حكايه. وغالب الحزاوي تكون مبنية على الغريب والعجيب من الأحداث، ولا تخلو من جانب الخرافة.

وفي اللغة: حزا الشيء قدرهتخمينا.حزا:تكهن”.

في نفس الصفحة يقدم لنا الباحث مجموعة من السمات المميزة للأدب الشعبي كمكون من مكونات التراث الثقافي كلهجته العامية وصراحته وروايته الشفهية وقدمه وقائله المجهول وشموليته وتعبيريته الجماعية وارتباطه بالحرف والأعمال وبعده الانساني وارتباطه بالعادات والتقاليد.

في الصفحة السابعة، سيقدم لنا مجموعة من المميزات المميزة لحزاوي جدتهعايشة بنت صالح الفرحان، مثل المزج بين الواقعي والمتخيل وتداخل البشري والحيواني في بنية الحدث والصراع بين الذكورة والأنوثة وبين المرأة والرجل ووجود العامل المساعد”غير البشري” والارتكاز على بنية أسطورية والنهايات التي تكون في صالح البطل المظلوم ويختم هذه المميزات بكون حزاوي جدته قابلة للتأويل السيميولوجي.

في الصفحة الثامنة، سيقدم لنا صاحب المؤلف، صورة بثنائية الأبيض والأسود (بعد وثائقي للصورة)، وتضم الجدة في الوسط  وترتدي ثوبا تقليديا(من الصدر إلى الأسفل فقط دون تقديم الوجه (لم يقدم لا في الغلاف ولاهنا) وطفلين صغيرين على دراجتين صغيرتين. على يمين الصورة، الطفل عبد العزيز الضامر (هو اليوم أستاذ جامعي) وعلى يسار الصورة السارد الطفل سمير وهو يضحك، مع توثيق للصورة ( التقطتها العمة سنة 1402 هجرية)، وتوثيق تاريخ حياة الجدة (ولدت سنة 1353 هجرية وماتت رحمها الله سنة 1437 هجرية).

بعد هذه العناصر الأولى من الكتاب، والتي أعتبرها مهمة ونوعية لما لها من قيمة جوهرية في فهم وتحليل وتأويل الكتاب وتوليد العديد من الدلالات منه، يقدم لنا الكاتب مقدمة من الصفحة التاسعة  إلى الصفحة  الثامنة عشرة (ترجمت بالإنجليزية في نهاية المؤلف)، وهي مقدمة يقدم فيها الكاتب لمحة دقيقة عن طبيعة الأسرة التي تربى في حضنها والتي تشرب منها عشق الحزايه وطبيعة هذه الأخيرة في المجتمع الحساوي والسعودي والخليجي ككل، مع تقديم بعض النماذج ووظائفها ودلالاتها، الخ، وتوقيع باسم الكاتب مؤرخ بيوم 12 يونيو 2020 م.

في الصفحة الموالية سيخصصها الكاتب، فقط، لبيت جده، هو الفضاء الذي تشرب و”تلبس” فيه بالحزايه، وهو ما نفهمه من خلال عنوان كتبه كالتالي :

منزل حكاياتي..وبيت أحلامي.

من خلال الصورة، سنوقف زمن القراءة مؤقتا، لنحاول السفر في بيوت أجدادنا، وهي البيوت التي انمحى بعضها، ونابت عنه مؤسسات اجتماعية معنونة ب”دار العجزة” أو “دار المسنين” لاسيما في زمن عربي بدأ يفقد بعض خصوصياته المجتمعية العربية الانسانية. أين اختفت منازل الأجداد؟. فماذا لو لم يعش سمير السامر في بيت جده الذي ساعده على اكتشاف المضمر في الحكايات الشعبية، وهو طفل صغير إلى أن تخصص فيها وهو باحث يدافع عنها في مجتمع سعودي/خليجي عربي عرف ببعده المحافظ، لاسيما حينما تقترب الحكاية من “المدنس”،الذي لولاه، ما تحققت متعة الحكاية المبنية على الغرابة والانزياح وخلخلة العادي والبحث عن المتخيل والعجائبي الذي يقود نحو الرغبة في التأويل وتوليد المعاني و/أو الدلالات؟

بيت، ليس كبقية البيوت العادية، ففي ليله/نوره، حضرت الحكايات الشعبية. هو بيت “عبد الله بن خالد الضامر في الحزم الأوسط بالمبرز…وراء هذه الجدران عشت في جنة الحكايات، ونعيم التلقي، وأصالة الحياة الممزوجة بالتراث والحداثة”.

لعل نقط الحذف المميزة لعنوان هذه الصفحة، وما كتبه من كلمات قليلة ودالة، يجعلنا  نملك “الحق” في كتابة ما نريد من حلم وجمال.نتلذذ مع سمير الطفل السامر، بيت جده/جدنا. فكلما عشنا فيها اقتربنا من صفة الكمال الطفولي، بل كلما كبرنا بقينا نحتمي بهذه الطفولة في كل تجليات حياتنا. هذا النوع من البيوت، وبلغة غاستونباشلار، يتحول من صفة البيت/المكان إلى صفة البيت/الحلم، بل إلى البيت/الانسان.

بعد هذه العناصر التقديمية النوعية الذي قدم بها الكاتب مؤلفه، والتي اعتبرها بمثابة خريطة طريق موضحة للتربة الحالمة التي كان يقف عليها الكاتب في كتابه هذا، سيقسم عمله إلى :

الجزء الأول

وقد ضم قسمين

القسم الأول (من ص 20 إلى ص 61)

حزاوي وقصص شعبية

 وقد قدم فيه سبع “حزايات” (ذبي صوفشواغنيش/بيض الحملي وبيض السمني/ترنجة السطح/شامان..عمانان..ومكية/ قطوة البحر وقطوة البيت/ ما في البيت نور إلا بك يا سرور/ اذبيبين أو مريم أم الدل والدلال، وختمه بمرويات عايشة بنت صالح الفرحان الشعرية مرفقةبمادة صوتية، يكفي الضغط، ومن خلال الهاتف المحمول، على الرمز(الباركود) الموجود في الصفحة الواحدة والستين لتجد نفسك بين يدي صوت الجدة الذي “يأسرك” ويجعلك تصغي بل تتماهى مع صوتها/حزاياتها.

القسم الثاني ( من ص 62 إلى ص128)

وقد خصصه للعديد من المفردات والأهازيج والتعابير الشفهية والتي خصبت مخيال الطفل سمير، والعديد منها موثق بالصورة وامكانية السماع المباشر لمن يحكيها عن طريق ربط القاريء ب( الباركود). ومن جملة ما قدم هنا:

– أربع سكر واربع بكر (لغز شعبي).

– تجيكالتهايم وانت نايم (مثل شعبي).

– جنية عين مرجان (خرافة).

الخ…

الجزء الثاني

وقد خصصه الباحث لمعجم الرواة والمرويات الشعبية، معززا هذا وما سبقه، بصور ذات بعد وثائقي وبالعديد من (الباركود) المحيلة مباشرة على مادة صوتية وبصرية، تجعلك تتنقل بين الرقمي والورقي بطريقة سلسلة ومحفزة لاستعمال العين والأذن وكل الأحاسيس ما دمت في حضرة الثقافة الشعبية.

 

ماذا يتبقى من “احزايه” للدكتور سمير الضامر؟

يتبقى الكتاب كله، وصورة الجدة التي كان لها الفضل في اخراج حفيدها للوجود البحثي العلمي، وهو ما يجعلنا نردد  ونعيد طرح السؤال التالي :

– ماذا لو لم تكن الجدة عايشة رحمها الله؟.

ماذا لو اختار الطفل سمير كبقية أقرانه طريق الطب أوالهندسة أو ربان طائرة، الخ؟. كان من المستحيل أن يكون الطفل/الدكتور سمير معروفا الآن وهو العاشق لذاكرته الشعبية السعودية والخليجية والعربية والإنسانية ككل؟. بل لو لم تكن جدته، وبيت جده، ما كان  أن يكون له هذا الأثر ويخصص جهده وزمنه لتوثيق ثقافته الشعبية واخراجها للوجود صحبة باحثين آخرين، في بلد، شأنه شأن بقية البلدان العربية الأخرى يعيش العديد من ناسه، في حالة “سكيزوفرينية” غريبة، إذ يتفاعلون في الأعراس والمناسبات وفي التفزيون، الخ، مع ثقافتهم الشعبية العريقة، وتصبح لهم نظرة دونية في حق من يمارسه أو في حق من يبحث فيها، بعد نهاية العرس أو الحفل؟.

بدوري، عشت هذه الحالة سنة 1985، حينما قررت، في بحثي الجامعي الأول بكلية الآداب والعلوم الانساينة بمراكش، أن اشتغل على الأغنية الشعبية المغربية، فنظر إلي من طرف زملائي وحتى من طرف بعض الأساتذة وأهلي، الخ،  بنظرة “تحقيرية”، في زمن الكل يتمنى أن يصبح طبيبا ومهندسا، الخ. لعمري إن التخصص في ما يؤكد هويتك ومحليتك ومن زوايا ثقافية وعلمية متعددة، قد ينتشل الطبيب والمهندس والمجتمع برمته، من حالة الضياع والتماهي والارتماء في حضن الغير والتربية على الشك في ثقافتك الشعبية والدفع في اتجاه أنها مصدر تخلفك، في حين أن الآخر كان ولا يزال مسكونا بجمع المحليات/الهويات، لأنه يدرك أنها سر من أسرار تقوية الذات.

تركيب

لقد تمكن الباحث الدكتور سمير الضامر، في مؤلفه هذا أن يقبض على زمنه الشعبي السعودي العربي العريق. تلذذ طيلة طفولته بحكايات جدته الشعبية. كبر وبقي حاملا أثر ذلك بين أحشائه. تكون وتخصص وتشبع بالعديد من المرجعيات الثقافية العربية والغربية، ووظف كل ذلك من أجل تجميع ودراسة هذه المتون الشعبية التي جمعها بدقة وعناية ووفق رؤية منهجية ثقافية أنتروبولوجية، تجعل من هذه المتون الثقافية الشعبية، التي قام بجمعها وترتيبها وتبويبها وتحليلها، حياة إنسانية تحضر فيها خبرة وحرف ومهن وحلم ووعي ولاوعي ورؤية هذا الإنسان الشعبي العامي الجماعي، لذاته الجماعية وللآخر وللعالم وللكون ككل.

الدكتور الحبيب ناصري

أستاذ باحث/المغرب

docteurhabib@gmail.com

Related posts