الدكتور الحبيب ناصري يكتب عن.. المغرب التربوي

الدكتور الحبيب ناصري يكتب عن.. المغرب التربوي

اقلام واراء

المغرب التربوي

 

كلما طرحنا أسئلة النهضة الحقيقية، وقضينا السنوات ونحن نتساءل، في ندواتنا ومؤتمراتنا وكتاباتنا وأفلامنا وحواراتنا، ما السبيل إلى احتلال مكانة مرموقة تحت سماء هذا العالم/العولمة، إلا وانتهينا، إن نحن فكرنا بشكل علمي/تربوي، إلى كون المدرسة هي المفتاح الحقيقي لكل نهضة حقيقية. لن نعيد اكتشاف العجلة من جديد، ولن نجد غير ما سلكته الإنسانية، وكل الدول التي قطعت العديد من الأشواط، وانتهى بها السفر إلى القبض على مفتاح التقدم. في كلمة واحدة،  وفي ظل سير متعدد في منعرجات هذه الحياة، أقول، إن المدرسة بوابة نهضتنا الحقيقية. قد نختلف ونتخاصم حول كل شيء، لكن، لن يختلف صديق وعدوه، حول كون بوابة المدرسة، هي الطريق السليم، نحو قول كلمتنا في هذه الحياة.

 لازال سؤال المفكر المصري محمد عبده، له شرعية إعادة طرحه :

  • لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟.

طبعا، الشرق هنا، وفي سياقاته التاريخية والجغرافية واللغوية والحضارية، يعني به على وجه الخصوص دولنا العربية، ونحن جزء طبيعي من هذه الدول. البحث عن المغرب التربوي، معناه، وضع المدرسة وما تنهض عليه، في عيون المجتمع وبكل مكوناته وحساسياته، لتساهم وبقوة في تطوير عيون هذا المجتمع، ليرى بشكل أفضل وأجمل، ذاته وعالمه ومن وما يوجد فوق وتحت الأرض.

المغرب التربوي، هو ذلك المغرب الذي من الممكن أن نحلم به. حلم ليس مستحيلا بل هو الحلم الجماعي الوحيد الذي عليه أن ينشغل به الجميع. أكيد أننا في وطننا العزيز، كلما عشنا محطة تثير الانتباه، مثل محطة الانتخابات أو جائحة من الجوائح، الخ، إلا وطرح سؤال التربية والحاجة إلى المدرسة. صحيح، أن العديد من المراحل المهمة قطعها المغرب، وفي مجالات عديدة، وبالمقارنة مع الماضي، في بعض جوانبه. مراحل لم تقطعها دول لها وسائل إنتاجية أكبر من المغرب، لكن، حينما نجعل من المغرب التربوي أولوية الأولويات، ونحاول ما أمكن إدخال (رمزيا) المجتمع بكل أطيافه عبر بوابة المدرسة، هنا من الممكن القول، إننا قد أمسكنا بالسر الحقيقي والنوعي لتحقيق قفزات تاريخية ومهمة نحو مستقبل مربوح بكل تأكيد.

المغرب التربوي، هو حينما ينشغل الجميع بسؤال التربية، وترسيخ فكرة أنها هي الخلاص، والتعامل معها في الدرب أو الحومة أو الشارع أو أينما وجدت، كما نتعامل مع أجمل ما نملك في بيوتنا كالصالونات، أو كما  يتعامل العاشق مع معشوقته. حينما ننجح في جعل المغرب التربوي، هو مفتاح المغرب الفلاحي والصناعي والديموقراطي والعلمي والحقوقي والقضائي والرياضي، الخ، ونؤمن إيمانا جماعيا بكون هذا المغرب التربوي، هو السر في تغيير العقليات وتربية الناس على القيم والجمال والعلم، الخ، هنا نكون قد طبعنا مع الطريق الصحيح والمؤدي إلى التقدم وبشكل كلي وشمولي، مما يجعل أثر هذا المغرب التربوي حاضرا في كل تفاصيل الحياة .

أمامنا اليوم، وثيقة تعاقدية مجتمعية وهي القانون الإطار 51.17، لو سألنا العديد من مكونات هذا المجتمع، ربما سنجد أن العديد من هذه المكونات لم تسمع به والبعض الآخر سمع به ولم يطلع عليه بشكل كاف، والقليل من تتبع واطلع وقرأ تفاصيله واستوعب قيمته وأهميته. هذه الوثيقة وبما أنها اليوم وثيقة تعاقدية ملزمة للجميع، ومنها تنبثق وستنبثق كافة التشريعات القانونية المنظمة للفعل التبربوي، من الممكن أن تكون بوابة حقيقية نحو هذا المغرب التربوي المنشود. من الصعب علينا جميعا، التموقع داخل خريطة تنمية حقيقية وفعلية وشاملة، دون اعطاء المدرسة عنايتها الأولى، وجعل عتباتها، عتبات مؤدية نحو الأهم. وحدها المدرسة الممكن الرهان عليها لوضعنا في موقع يليق بهذا المغرب التاريخي والحضاري والمتعدد والمنفتح على الجميع.

حينما تصبح المدرسة في قلب الفلاح والسياسي والتقنوقراطي والأم والطفل والتاجر والشيخ والشاب والرجل، وفي قلب كل مواطن مغربي، لكونها هي الفضاء الوحيد الذي علينا الرهان عليه، ليدفع بتنمية المواطن/الإنسان، وبتثقيفه وتكوينه وتوعيته وجعله محبا للحياة ولقيمها وللوطن، ولمن قدم نفسه فداء له ليحرره من قبضة الاستعمار، الخ. هنا، سنكون في حقيقة الأمر قد أعطينا للمدرسة مكانتها التي توجد في كل الدول المتقدمة والمتحضرة.

لكن كيف السبيل إلى هذا؟.

سؤال من السهل طرحه، لكن من الصعب أن نجد له أجوبة سريعة وجاهزة. أكيد أن بداية الأجوبة تمر عبر الإعلام (الميديا) الذي هو اليوم من “يصنع” و”يتحكم” بشكل أو بآخر في وعي الناس. حينما يدرك الإعلام كيف من الممكن الدفاع عن المدرسة العمومية، ونشر النماذج الناجحة، والبحث عن كل السبل الممكنة لتثمين المدرسة، هنا، من الممكن القول إننا فعلا بدأنا في الاتجاه الصحيح. لنفكك صورة الإعلام المغربي، بين من دافع عن المدرسة العمومية لكونه يعي أن سيرها الطبيعي نجاح للمجتمع برمته، وبين من “يتصيد” وعن قصد، أخطاء البعض داخل هذه المدرسة ليبحث عن “البوز” بل ليبحث عن المال، ناسيا أنه هنا كمن يضع قضيبا حديديا في عينه. النتيجة أنه يعمي نفسه وأسرته ومحيطه ووطنه ككل. نعم للنقد المفيد المطور للمدرسة، ولكن لنكن واقعيين، ونطرح السؤال التالي:

– من المستفيد، من حوار معين، مع بضعة تلاميذ أمام باب مدرسة وخلال فترة الامتحانات، بحثا عن كلمات “شاذة” ليروج بها لموقعه بحثا عن حاجة مادية عابرة؟. لماذا لا يروج للعديد من النماذج الناجحة لهؤلاء التلاميذ (وما أكثرهم)؟.

أكيد أن ما قلناه عن الإعلام، من الممكن قوله، حول السينما وغير هذه الوسائط البصرية المتعددة، بل، من الممكن أن تتعاقد هذه الوسائط البصرية، رمزيا وأخلاقيا، من أجل جعل المدرسة في لب اهتمامها بما فيه تحليلها وتتبع سيرها والإيمان بكونها هي مفتاح التقدم وأي تواطؤ لضربها وهدمها، هو هدم للمجتمع ككل. طبعا، هنا نرفع القبعة لكل من كان ولايزال يشتغل في الخفاء والعلن، من أجل جعل مدرستنا العمومية، قائدة التقدم لكونها، مشتل صناعة هذا التقدم والتطور.

بجانب هذه المكونات السمعية البصرية ككل، أي الإعلام والسينما، لابد أن نفكر في صيغ مجتمعية شعبية أخلاقية، تجعل من المدرسة بيتا مفيدا لكل المغاربة. أي كيف علينا أن نتربى جميعا حول فكرة بسيطة وسهلة وتتعلق بالوعي بضرورة ترويج صورة جميلة عن مدرستنا العمومية، عوض “تصيد” بعض الحالات النادرة وتقديمها هدية، لمن بنى عمله الإعلامي على هذا “التصيد” لتحويلها إلى مادة “خصبة” للترويج، داخل شبكة التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال لا الحصر، متناسين هنا فضل هذه المدرسة على المغرب ككل ومنذ فترة الاستقلال إلى اليوم، بل لولا المدرسة لما تمكن هذا “المصطاد” من الاشتغال في هذا الموقع أو الجريدة، الخ.

ترويج صورة جميلة عن مدرستنا العمومية، لا يعني إطلاقا غض الطرف عن نقدها وتحليلها والتفكير في كيفية تطوير التفكير في عملها، الخ؟. لكن، في اعتقادي، القفز عن النماذج الناجحة ودورها وفضلها بشكل عام، و”التقاط” صور سلبية فقط ومحاولة نشرها في أي مكان، فهذا ليس ضارا بالمدرسة وحدها بل، هو ضار بالمجتمع ككل.

لن ننكر دور المدرسة العمومية، في كونها، هي من زودت المجتمع المغربي بكافة حاجياته وإلى الآن. أين تكون الأستاذ والمهندس والتقني والممرض والوزير والفلاح والشرطي والشاعر والعسكري، الخ؟. بل فيها تعلم عبد الرحمن اليوسفي وبن سعيد يدر ومحمد عابد الجابري  وفاطمة لمرنيسي ومحمد سبيلا وعبد الله العروي وطه عبد الرحمان وعلي الكتاني ومحمد برادة ومحمد مفتاح وسعيد يقطين وأحمد اليبوري ومحمد البكري وعبد الله راجح ومحمد بنيس وعبد الهادي بلخياط وعبد المجيد الظلمي وعسيلة وفرس ومحمد القاسمي، والأسماء عديدة، وهي أسماء تحولت في مرحلة من عمرها إلى صورة جميلة ممثلة للمغرب السياسي والفكري والأدبي والرياضي، الخ، بل لا زالت أسماء عديدة وإلى يومنا هذا عبارة عن واجهة ديبلوماسية لها رمزيتها وقيمتها ولعل من يسافر خارج المغرب ويشارك في العديد من الندوات، يدرك قيمة استعمالي لكلمة “دبلوماسية”. المغرب التربوي، إذن، هو المنطلق الحقيقي لبناء مغرب متطور ومحقق لقفزة حقيقية نحو المستقبل.

وفق ما سبق، وفي اعتقادي المتواضع، علينا أن نجعل من الإصلاح الجذري للمدرسة، وبأدوات التربية والتعليم والبحث أولا وأخيرا، بمعزل عن أي “رؤية” سياسوية تجعل من المدرسة رهينة في قبضة الأحزاب وغيرها، بل إن هذه الأخيرة عليها توفير العدة القانوينة والمالية والمادية والبشرية واللوجيستيكية، الخ، بعد أن يقول أهل التربية والتكوين والبحث العلمي، قولهم الإصلاحي الهادف إلى تأسيس وترسيخ مغرب تربوي يبقى دوما حاضرا ومستمرا في التاريخ .

الدكتور الحبيب ناصري

المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين

الدار البيضاء

Related posts