اقلام واراء
وحده القدر الفايسبوكي قادني إلى التعرف على طبيبة أسنان متخصصة في التقويم والتجميل. لاحظت أنها تكتب بلغة عربية فصيحة وسليمة. أحسست أنها متشبعة بقيم ثقافية عربية وإسلامية عريقة. تستشهد بالقرآن الكريم وبالشعر وتحضر العديد من الأسماء العلمية والفكرية في كل ما تكتبه. خلخلت لي صورة الطبيب المغربي الذي عادة لا صلة تربطه باللغة العربية وثقافته وحضارته. طبيب تشكلت، وفي المجمل، صورته في مخيالي بأنه فرنكفوني حتى النخاع، بل وأمام أعيني شاهدت بعضهم يسخر من اللغة العربية ويتساءل ما جدواها؟. أعرف جيدا أن الخطأ نابع من طبيعة تكوينه ومنظومته التربوية والعائلية والمجتمعية ككل. وربما هذا ما جعلني أعجب دوما بكل طبيب أو مهندس يتكلم بلغة عربية فصيحة ويكتب بها. إنهم قليلون جدا في وطني، مع العلم أن الحكيم قديما كان مبدعا في كل شيئ.
إنها الدكتور حسناء الكتاني بنت الشهيد والبروفيسور علي الكتاني. لم أكن أعرف لا من هو هذا المفكر ولا بنته ولا أسرته ككل. تجاوزت الوضع وهنأتها عن بعد وداخل نفسي، وقلت لها وعن بعد دوما وكما يقول المغاربة باللسان الشعبي الدال (سير الله يرضي عليك في الدنيا والاخرة. الله يحفظك ويحفظ تريكتك). تتبعت عن بعد العديد من المعارك الثقافية التي تخوضها في الفايس بوك. قلت مع نفسي، هناك سر ما خلف هذه الطبيبة وهي المتحكمة في اللغة العربية بشكل غريب وغير عاد. أقول هذا الكلام و”أنا” الآتي من مجال اللغة العربية وآدابها والمحاضر والمدرس والمكون للمدرسين الذين سيدرسون مادة اللغة العربية في مؤسسات التعليم الثانوي ببلدي.
الأم في خدمة الطبيبة لغويا:
وأنا “أتلصص” لغويا وثقافيا على ما تنشره هذه الطبيبة، كان لاحضار أمها في كتابة من كتاباتها، تلك الشرارة التي جعلتني أومن بكونها تنتمي لأسرة لها صلة عريقة باللغة العربية. كتبت ذات صباح أن أمها كلمتها هاتفيا وهي تستعد للبدء في علاج مرضاها بعيادتها، وطلبت منها أن تصحح كلمة كتبتها بشكل غير سليم. أصرت الأم أن تصحح ابنتها الطبيبة الكلمة وقبل أن تبدأ عملها في عيادتها. لأول مرة أشاهد وأقرأ خبرا مفرحا كهذا، ومن هذا النوع المميز لعلاقة نوعية بين أم وابنتها، في زمن تهيمن فيه التفاهات أينما وليت وجهك في هذا العالم الافتراضي.
قررت أن أرسل على الفور رسالة لها لكي تضيفني في لائحة الأصدقاء ضمن هذا العالم الافتراضي. قبلتني، مشكورة وبدأت في التفاعل مع ما تنشره. حدثت طلبتي عنها من زاوية كيف أن طبيبة متحكمة جدا في اللغة العربية في زمننا الفرنكفوني الساخر أحيانا من اللغة العربية ومع العلم أن جميع اللغات الإنسانية هي حمالة حضارات إنسانية عريقة، لكنها السياسة “الملعونة” ومن زاوية اقتصادية مهيمنة، ما يجعل من لغة لها قيمة في زمن ما وأخرى تعيش في الظل، والحكايات هنا تطول.
تطورت العلاقة الإنسانية، لأعرف أن أخاها الصيدلاني الدكتور سيدي حمزة له عالمه الخاص العاشق للذاكرة التراثية العربية والإسلامية، حيث، بدروه يجيد اللغة العربية بل يحقق العديد من المخطوطات وينشر ويؤلف ويكتب مقدمات دقيقة للعديد من المؤلفات العربية القديمة. صيدلاني وباحث في الموروث الثقافي القديم بشكل قد لا نجده عند أهل الاختصاص.
وستكتمل الصورة، وتتحقق المفاجأة الكبيرة، حينما أهدتني هذه الأسرة العريقة والعالمة مؤلفا لابنها الباحث والمهندس والجامعي الذي يدرس الهندسة الكهربائية والإلكترونية بإحدى الجامعات الأمريكية.
“تعداد المسلمين بالعالم/ تحليل زمني وجغرافي منذ البعثة النبوية إلى القرن القادم”، هو العنوان الذي اختاره الدكتور البروفيسور حسين بن علي الكتاني، لبحثه الذي أخذ منه جزءا زمنيا كبيرا وجهدا نوعيا، لا سيما ومثل هذا النوع من البحوث جد نادر. وأنا أقرأ مقدمة الكتاب، أجد الباحث يشيد بوالدته التي نقحت مؤلفه لغويا. هنا تحقق حدسي وقلت فعلا إنها أم تتفاعل فيها دماء ثقافية ولغوية عريقة جدا.
حينما أكملت الكتاب، نشرت عنه ورقة تحليلية مكثفة لأعرف به القارئ المغربي على وجه الخصوص. وشاءت الأقدار أن ألتقي بصديق قديم وعزيز علي وهو من مدينة فاس، والكل في فاس ومنذ القدم. حكيت له عن هذا الكتاب وطبيعة ونوعية الفكرة وقيمتها العلمية والبحثية وذكاء مؤلفه. تطور الحديث نحو ما قرأت في المقدمة وكيف أن الأم هنا هي في خدمة أبنائها لغويا وتأكدنا أنها أم مغربية كريمة وأصيلة وخلفها رحلة تاريخية وثقافية عريقة. رد علي صديقي قائلا : إذا كنا نقول هذا الغصن من تلك الشجرة، فهنا علينا أن نقول هذه الشجرة من تلك الأرض الكبيرة والشاسعة.
استأذنت الدكتورة حسناء لكتابة ورقة عن أمها، لم تمانع بل أرسلت لي مقالا سابقا نشرته عن أمها تتحدث فيه عن أصل أمها وعلاقتها بالراحل الدكتور علي الكتاني زوجها (أب الأبناء المتحدث عنهم هنا)، هنا أقبض على أصل وجوهر ما أثار انتباهي لأتأكد أنها فعلا سليلة أسرة علمية. سليلة أسرة علمية عريقة هي خلاصة ما كتبته البنت عن أمها.
إذا كنا نقول أن خلف كل عظيم امرأة، فماذا عسانا أن نقول هنا لاسيما والرجل الأب كان عظيما وخلفه امرأة عظيمة أيضا؟. علينا الالتفات إلى مثل هذه النماذج لنخلخل بها تلك الصورة النمطية عن المرأة المغربية والعربية والإسلامية والمرأة ككل، لاسيما وعامل السن يفعل فعله في الجميع.
تعالوا معي أحكي لكم وبشكل مكثف عن من هي نزهة عبد الرحمن الكتاني؟
وأنا أقرأ ورقة الدكتورة حسناء البنت عن أمها لالة نزهة عبد الرحمن، (الورقة موجودة في صفحة الدكتورة حسناء الشريف الكتاني)، لأعرف أنها، أي الأم، هي بنت عالم كبير وهو عبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني وأمها بنت الشيخ المجاهد محمد الزمزمي الكتاني وجدتها لأمها لالة عائشة بنت الخضر العراقية. تقول عنها ابنتها الدكتورة حسناء في ورقتها المنشورة في صفحتها المشار إليها أعلاه، إنها بارعة في اللغة العربية ولا تقبل لحنا منها ومن إخوانها. تحفزهم، وإلى اليوم، على الحديث باللغة العربية فقط . ما أثار انتباهي في هذه الورقة أيضا أنها قامت بتحفيظهم أنشودة مغربية تأمرهم بتردادها دوما والطائرة على مقربة من الوطن، لأنها أسرة كانت كثيرة الترحال نظرا للمهام العديدة التي كان يقوم بها الأب الدكتور علي الكتاني ( قد يقودنا هذا التعرف الثقافي الجميل الإنساني على هذه الأسرة العالمة إلى كتابة مؤلف عن الراحل إن شاء الله).
تقول الأنشودة:
مغربنا وطننا روحي فداه… ومن يدس حقوقه يذق رداه
دمي له روحي له… وما ملكت في كل آن
للحرية جهادنا حتى نراها… والتضحية سبيلنا إلى لقاها
في نفس الورقة تثيرني معلومة جعلتني أبقى مستغربا لعراقة هذه الأم، حيث تقول الدكتورة حسناء، إنها تكرر لهم بيتا شعريا قاله الشاعر قتادة بن إدريس القرشي حاكم مكة في القرن السادس الهجري:
بلادي وإن جارت علي عزيزة/// أهلي وإن ضنوا علي كرام.
على الرغم من التزامات عائلية عديدة كلفت بها هذه الأم العريقة، لاسيما والراحل كان كثير الترحال، فقد ترجمت كتابا مهما من الإنجليزية إلى اللغة العربية بعنوان: صقر قريش عبد الرحمن الداخل. هي تجيد ثلاث لغات أساسية وهي العربية والفرنسية والإنجليزية. وحاصلة على مجموعة من الشواهد الجامعية.
خلاصة الكلام، لم يكن حدسي وليد فراغ، بل إنني أشم رائحة اللغة العربية في كل إنسان يحبها ويدافع عنها لاسيما في زمننا هذا. قبلة على رأس هذه الأم المغربية العريقة وقبلة أخرى على يديها وأقول لها بارك الله فيك سيدتي الكريمة إنك لست أما لأبنائك وحدهم، بل، نحن بدورنا كمثقفين ومحبين لهذا اللغة العربية التي سكنتنا منذ طفولتنا، لنا الشرف أن نكون ضمن أبنائك.
الدكتور الحبيب ناصري/أستاذ باحث
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء