اقلام واراء
لا أدري لماذا حينما كتبت لفظة رباعيات، استحضرت مباشرة صورة أم كلثوم رحمها الله، وهي تهز كيان الجميع على إيقاعات أغنية رباعيات عمر الخيام الشاعر الفارسي رحمه الله. سألت نفسي عن السر الجميل والممكن القبض عليه بين فكرة مقالي وأغنية الرباعيات؟ جواب السؤال، سيكون وبشكل مغامر ومختزل وحالم في نهاية المقال.
اعتدنا على إحضار ثلاثيات ورباعيات عديدة لشرح العديد من الإشكاليات التربوية والتعليمية والتعلمية لفائدة الطلبة أثناء تكوينهم وحتى ونحن نكتب دراسة أو بحثا، الخ، له صلة بهذا الموضوع. مفاهيم عديدة تم نحتها من لغة الأرقام، وتم توظيفها في مجالات معرفية وعلمية عديدة. لكن لرباعياتنا هنا، طعم خاص! رباعيات هذا المقال تتحدد في الإدارة التربوية والمدرس والأسرة والمتعلم. أربعة عناصر أساسية لفهم وتطوير ما يجري في منظومتنا التربوية. علينا الوعي بها (بهذه الرباعيات)، وتشغيلها وجعلها مياه عذبة متدفقة فيما بينها وإلا، ومهما سطرنا من إصلاح، بل ومهما اجتمع “علية القوم”، فلن يجد الاصلاح طريقه الحقيقي نحو ما خطط له. صحيح أن إصلاح منظومة التعليم، عمل شاق ومعقد وصعب، وحلبة تتصارع فيها المصالح والايديولوجيات، الخ، لكن ما يهمنا هنا، هو الحديث عن هذه الرباعية بشكل عام، باعتبارها حلقة رئيسية مفقودة في هذه الرباعيات. الحلقة المفقودة، ووفق ما سبق، في هذه الرباعيات، هو دور الأسرة على وجه الخصوص. دور تراجع في ظل أوضاع سوسيو-قتصادية تتعلق بطبيعة وظروف حياة اليوم (البحث عن لقمة العيش من طرف الوالدين معا). قبل التكنولوجيا والرقميات وسلطة الهاتف المحمول بكل حمولاته، كنا نقول إن الشارع هو من “سرق” تربية الأجيال الجديدة من أسرها. اليوم الطفل أو المتعلم أو الشاب، وهو داخل بيته أو في قسمه أو في الشارع أو يمتطي وسيلة نقل عمومية أو بين أهله وذويه، الخ، لكن الذي يوجهه ويسطر له برنامجه اليومي والليلي، هو هاتفه المحمول بكل حمولاته المتعددة . صحيح، فالأسرة حاضرة بشكل، ربما، أفضل في القطاع الخاص لأسباب عديدة، وفي مقدمتها البعد المادي الحاضر بقوة في هذا القطاع. وللضرورة المادية والتربوية والتواصلية مع الأسر، تمكن هذا القطاع، نسبيا، من تحقيق تراكم تواصلي مع أسر متعلميه. له برمجة زمنية توضع لتحقيق تواصل مفيد بين المدرسين وأسرهم، طبعًا، وعن طريق تنسيق وحضور الإدارة التربوية المدبرة لهذه المؤسسات الخاصة ذات الطابع المقاولاتي . تواصل شبه غائب في القطاع العام، حيث لا تستدعى الأسر ربما إلا في حالة شغب أو غياب ملحوظ لابنها. أتذكر حينما كنت أشتغل في التعليم الثانوي في فترة الثمانينيات، أنني أخبرت الحارس العام بضرورة استدعاء بعض الآباء لتلاميذ كانوا متميزين جدا. تفاجأ الحارس العام بطلبي وضحك. قال لي، طلبك غريب، ولا مذكرة قانونية لدي لاعتمادها في استدعاء هؤلاء الآباء !!. ضحك وتملص من مهمة اعتبرها غريبة وأكد لي، وهو يضحك، أنه سيخبر التلاميذ بنفسه ويشجعهم وطوى ملف طلبي. غياب الأسرة في تتبع أعمال أبنائها، طبعًا له أسباب عديدة ولا يمكن تفصيل القول فيها هنا، لاسيما في ظل تراجع جاذبية سلطة المدرسة في المجتمع، خصوصًا وأن الترقي الاجتماعي، لم يعد اليوم، يصنع بها وفيها بل أصبح في الغالب يصنع خارجها. اهتزت القدوات، وتم ترسيخ “التفاهات”، كنماذج جديدة مؤثرة في المجتمع . سوق للنماذج الفاشلة، وتبوأت مكان المال والجاه، وحشرت القدوات القديمة الناجحة في الظل/الهامش، لأنها “غير مربحة”.
التفكير في تقوية حبل العلاقة بين هذا الرباعي، خطوة قوية لتحقيق تعلم مفيد ونافع للمتعلم.صحيح، فالعديد من جمعيات الأمهات والآباء وأولياء أمور المتعلمين، جمعيات وازنة وفاعلة وتشتغل بشكل مهم، لكن في ظل عدم تعاون وتتبع حقيقي ونوعي من لدن الآباء، لن يتحقق الشيء الكثير . علينا التفكير في صيغ رقمية وأخرى حضورية لابد منها، لخلخلة هذا ” الراكد”. دور الأسرة، حلقة حقيقية في هذا الرباعي الذي عليه أن يبنى على الود والمحبة والتيسير، لا التعقيد والبحث فقط عن تطبيق القانون وبشكل ميكانيكي غير مؤنسن. الحب، الطريق الوحيد نحو بناء رباعيات تربوية قوية !. الحب، بمفهومه الصوفي الوارد في رباعيات الخيام وصوته يصدح في حنجرة الرائعة والراحلة أم كلثوم وهي تردد :
القلب قد أضناه عشق الجمال
والصدر قد ضاق بما لا يقال
يارب هل يرضيك هذا الضما
والماء ينساب أمامي زلال
………
أعتقد، أن الخيط المفقود في كل مكونات هذه الرباعيات التربوية من الممكن القبض عليه إن نحن طهرنا قلوبنا بعشق خيامي/صوفي إنساني، وأبعدنا المدرسة عن لوي عنقها لفائدة صراعات وتطاحنات سياسوية وجعلها مصدر تهافت حول النقطة، الخ، بل علينا التفكير الدائم في كيفية جعل الأسر تحضر بشكل كمي ونوعي لتتبع أعمال أبنائها.لنتذكر أن مهنة التدريس مهنة إنسانية بامتياز !.
مهما قيل، ومهما كان وسيكون، فلندافع دوما عن مدرستنا العمومية. يكفيها فخرا أنها هي التي بنت هذا المغرب!. ويكفي خريجوها، أنهم تعلموا فيها مجانا، دون نسيان حتى خبزها وحليبها وسمكها المعلب اللذيذ الذي كان يعطى لنا جميعا في كل صباح وعلى إيقاعات نشيدنا الوطني في ساحة كانت تقشعر لها الأبدان!.
بقلم: د. الحبيب ناصري