اقلام واراء
فعلتها القناة الأولى المغربية
تقديم
عمل أقل ما يقال عنه، أنه رائع بكل المقاييس الفنية والثقافية والجمالية. سلسلة وثائقية تلفزيونية جميلة جديدة أنتجتها القناة المغربية العمومية (القناة الأولى)، حول الخط المغربي. سلسلة، من توقيع المخرج المغربي عبد العزيز العطار الذي في رصيده العديد من التجارب الوثائقية، وحول موضوعات إنسانية ووطنية وثقافية متعددة.
في سياقات العولمة، باعتبارها اليوم تحاول تبضيع الحياة وتعليب كل ما يملكه الإنسان، وفي أفق القبض عليه ومحو ذاكرته، نكون هنا أمام سؤال قوي ونوعي من من الممكن خلخلة هذه الصورة التكنولوجية، ويرجعنا إلى العديد من المقومات التي تميز ذواتنا، وتولد لدينا الإحساس بنخوتنا التاريخية والحضارية، وتمجد فينا ما كنا نملكه في تاريخنا من عمق جمالي للعديد من المكونات الثقافية المغربية، ويكون الرد هنا وعلى الجميع، أننا فعلا أمة تملك حضارة ونسقا ثقافيا عريقا وعميقا، على الرغم من كوننا حاليا نخطو نحو البحث عن مكانة تحت الشمس في جوانب اقتصادية واجتماعية عديدة، وعلى الرغم من مشاكل حالية متعددة تحاصرنا هنا وهناك…
تحول ذاكرة الخط المغربي إلى عمل وثائقي من عشر حلقات (عرضت منه القناة المغربية البارحة الحلقة الأولى)، جعلنا فعلا ونحن نتابع هذا العمل، نشعر بأن الذاكرة التاريخية المغربية عريقة جدا. ذاكرة خصبة تفاعلت فيها العديد من التجارب والحضارات وولدت خصوصية عمرانية وثقافية مغربية لها قيمتها الجميلة والراقية. هذه السلسلة الوثائقية التلفزيونية المغربية، كان عليها أن تكون، لتحقق لنا متعة بصرية تلفزيونية وتنتشلنا من زمن الوباء وهيمنته وتعيد لنا نوستالجيا مغربية جميلة وبهية، وتقدم بالملموس، أن الموضوعات التلفزيونية المغربية حينما تكون محلية أي خاصة بالذات المغربية، تحقق المتعة وتجلب المشاهد ليتابع ليس وهو يفكر في روتينه الحياتي اليومي، بل يتابع وهو ينتعش داخليا ويشعر كيف أن الأجداد كانوا فعلا عظماء، ويستمد من مثل هاته الأعمال شحنة نفسية ووجدانية وروحية تقوي مناعته لاسيما في زمن كهذا، حيث المعنويات مصابة بأثر تلقي بصريات فيروسية عالمية متعددة.
حول العنوان
اختيار عنوان مثل “الخط المغربي”، يجعلنا ومنذ البدء نشعر أننا أمام موضوع له صلة بجزء من الثقافة المغربية البصرية والروحية. الخط المرهون باليد والبعد الجغرافي المرهون بالمغرب. هذا البلد الذي بمجرد ما يذكر تاريخه وحضارته وعمرانه وأدبه العالم أو الشعبي، الخ، إلا ونجد أنفسنا أمام إرث كبير، ساهم في تقوية الذاكرة المغربية وقوى لنا الإحساس بسؤال الهوية والتراكم التاريخي والحضاري الذي يشكل حلقة مفقودة عند البعض الآخر.
الحديث عن الخط المغربي ومن زاوية بصرية توثيقية، مغامرة صعبة، إن لم يكن من يقودها متمكنا، وله تراكمات بصرية ومهنية وذاكرة خصبة يلتجأ إليها كلما أحس أنه أمام تحد يتعلق بتحويل البصري إلى البصري الوثائقي.
حول فكرة السلسلة
فكرة، يتضح أن غايتها النبش في ذاكرة الخط المغربي الذي تكون في سياقات تاريخية مختلفة، وحل في الذات المغربية، وفي كل تجلياتها العمرانية والروحية والمخطوطاتية وعقود البيع والشراء ورسائل الملوك، وغير هذا طبعا.
فكرة، من الممكن أن نجني منها العديد من المنافع التربوية والتاريخية والثقافية والجمالية. خيرا، فعلت قناتنا الأولى حينما أقدمت على إنتاج هذه السلسة، التي ستقوي صلى المتلقي المغربي بذاكرته البصرية والثقافية والتاريخية والحضارية ككل، في زمن الوباء وفي زمن المحو البصري لكل ما هو جميل والدفع بالإنسان، في عالمنا هذا المتطاحن والمتحارب، نحو أن يصبح إنسانا معتوها بكثرة هيمنة العديد من مظاهر التكنولوجياء العمياء.
كلما اقترب التلفزيون أو السينما، الخ، من المحلية وصيغت هذه المحلية برؤية بصرية جميلة، حضرت الفرجة ولذة التلقي. بل حضرت الإفادة التي قد تساهم في تقوية مخيال الملتلقي وجعله متصالحا مع ذاته والآخر والعالم ككل.
حول الحلقة الأولى وبداية تشكل الخط المغربي
على مدى 52 دقيقة استمتعنا بالعديد من المكونات المكونة لهذه الحلقة الأولى التي كان رهانها على وضع الخطوة الأولى في تربة تشكل الخط المغربي.
خط من أصول مشرقية/كوفية، حضر ضمن سياقات تاريخية مع تفاعل المغاربة الأمازيغ، مع ما ورد من المشرق، لاسيما أثناء الرحلة التاريخية الأولى، رحلة المولى إدريس الأول. حضر هذا النوع من الخط وتفاعل معه المغاربة وبصموه ببصمتهم وجعلوها يتماهى مع خصوصياتهم الروحية والجغرافية والثقافية، والتعايش مع ما كان سائدا من قبل، أي خط تيفناغ، باعتباره أيضا مكونا من مكونات هذه الهوية المغربية. بل شاهدنا كيف تحول هذا الخط المغربي، في نشأته الأولى، من مرحلة ما قبل التنقيط، إلى مرحلة التنقيط، (أي وضع النقط فوق الحروف)، ثم كيف كتب به بعض العلماء الأمازيغ محتويات علمية وروحية أمازيغية، مما يؤكد ومنذ البدء، كيف أن المغرب بلد عبارة عن مختبر تفاعلت فيه العديد من الأشكال الثقافية واللغوية والبصرية، الخ، لينسج هويته الخاصة بهذه الذات المغربية الفسيفسائية المتعددة.
حضور بارز لأسماء بحثية مختصة في تاريخ المغرب وتاريخ الغرب الإسلامي ككل. اختيار دقيق للأسماء وأمكنة التصوير. من الممكن التذكير هنا بأسماء جامعية، لها قيمتها العلمية والبحثية والتربوية، بجانب مجموعة من الخطاطين، الخ، شاركت في هذه السلسة مثل الباحث أحمد عمالك والمختار النوراني وموسى العوني ومحمد البركة وحميد الفاتحي وحنان توزاني، الخ. أسماء جعلتنا ندرك قيمة المعلومة التاريخية الخاصة بالخط المغربي وكيفية تشكله.
حول الرؤية الإخراجية البصرية للفيلم
في هذا الحلقة التلفزيونية الوثائقية الأولى، أحسسنا بقيمة المكان الذي تم اختيار التصوير فيه. مكان مسكون بالخط والجمال، والحديث كان عن الخط والجمال. أمكنة تحولت إلى توليد الإحساس بالنخوة العمرانية البصرية التي لازالت تشكل محط جذب بالنسبة لنا وحتى بالنسبة لغيرنا (مثال العمران المغربي هو مصدر دخل مهم في السياحة المغربية).
في المشاهد الخاصة بالقرويين، تمكن المخرج أن يدخلنا معه في هذا الفضاء التاريخي المفتوح والمتعدد، من خلال طبيعة الجلسة المنتقاة بشكل جيد في بهو القرويين وطبيعة الألبسة التقليدية المغربية التي كان يرتديها خطيب الجامع وأستاذ كرسي به، الدكتور إدريس الفاسي الفهري. حيث أحسسنا معه بطبيعة التنوع العمراني داخل القرويين، وببصمات مختلفة تلخص طبية الدول التي تعاقبت وحكمت المغرب، وكانت الخلاصة هو هذا الطابع العمراني التعددي الذي يعكس في العمق هوية بصرية مغربية تشكل اليوم جزءا ثقافيا مغربيا لازال يفعل فعله في المتلقي.
خلاصة
ما أحوجنا إلى مثل هاته الأعمال، لاسيما في زمن كهذا، حيث التيه يميز حياة الإنسان، وبالتالي أعمال وثائقية كهاته، تجعلنا نستحضر الجانب العمراني والثقافي والجمالي، الحاضر في العديد مما تركه الأجداد، ويعطينا الإحساس بعظمة الانتماء إلى رقعة جغرافية تفاعلت فيها العديد من الدول والأمم، وودت بلدا إسمه المغرب، عريق بعمرانه وذاكرة جداته وحكاياتهن الشعبية وعلماء ساهموا في تقوية جوانب من هذه الذاكرة. وما الخط المغربي الذي شكل محور هذه الحلقة والحلقات الآتية إلا رحلة جميلة في ذاكرة الزمكان المغربي.
د.الحبيب ناصري
أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء