اقلام واراء
من عفو اللحظة
كـــــم نـــــتــــشــــابـــــه أيـــــهــــا الــــــبـــــحـــــر!
قد سألت البحر يوما هل أنا يابحرمنكا ؟
هل صحيح مارواه بعضهم عني وعنكــا ؟
أم ترى مازعموا زورا وبهتانا وإفـــكــــا ؟
ضحكت أمواجه مني وقالت لست أدري
*إليا أبوماضي
وأنت أمام البحر ، تمد عينيك للأفق والأزرق الرحيب، بحر يتمرآى بكل بهائه في السماء ، وطيور النوارس تحلق كالأحلام ، بحر يهدر موجه بالحكايات والأسرار ، أمواج ترتطم بأمواج مد وجزر في تناغم وتجاذب أزلي ، كم تحب أن تغمض عينيك وتحاول أن تسمع مايقول ياترى هذا البحر ؟
تسترخي وتتسلق أعماقك راحة واطمئنان ، أتحتاج كل صخب هذه الأمواج لتتحاور مع أمواجك الداخلية ، كم نتشابه أيها البحر ، وكم أجد من دعة وأنا أصيخ السمع للموج وهي ترتطم بالصخر أو تتكسر على الشط راعفة بالزبد والماء الفوار الغائر في التجاويف ، كلما زرتك يابحر أشعر بأني قد تجردت من الضغط اليومي وأغتسل بمائك وأتطهر من أدران وأتعاب الشطحي اليومي ، أكتشف نفسي بحرا إلى جوارك ، ويهيج موجي كما تهيج أمواجهك ، تعود بي فرحة الماء إلى كل مباهج الطفولة والأحلام البكر ، في صباحاتك النقية شمس تتفضض بكل عرائس الجمال ، قبل أن تنهض شمس الضحى الحانية أو تشتد أشعة الظهيرة الحامية ، وأطفال يتصايحون من جراء الدهشة وبرودة الماء ، وقد يسرحون في بناء الأبراج والقصور قبل أن تتكسر تحت أقدام عابثة ، وفي المساء ترحل شمسك كفاكهة نهار مخضوضبة بحمرة يبتلعها بحر جائع ليسربل المكان بظلمة زاحفة والأمواج تواصل سمفونيتها العذبة باسترسال…
سخر الله البحر خدمة للإنسان ، لما يزخربه من كائنات بحرية فيها أكل وشراب وحلية وزينة ” وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخير فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ” النحل : 14.
وجاء في المأثور ” جاور بحرا أم ملكا ” والمقصود بالمجاورة هنا يتجلى في القرب من البحر ، فكيف ماكان الحال ستستفيد من هذا الجوار ولو بالحصول على سمكة لطعامك أما مجاورة حاكم أوملك فتفيد بالحركية التي تكون في الطريق الموصلة إليه وما ينتج عنها من رواج وتواصل إنساني وتجاري ، فالمنتوجات البحرية من أساسات التي ترتبطها عجلة الإقتصاد من صيد بحري ورحلات وسفر ومتعة ، كما يعد البحر مصدرا لمواجهة التحديات المستقبلية المتعلقة بتوفير الغذاء والطاقة ، والمغرب على امتداد البحر المتوسط والمحيط لا يستغل بالشكل المطلوب ثرواته البحرية الهائلة القادرة على خلق مناصب للشغل والسياحة والترفيه فضلا عن إرفاد المائدة المغربية بلحم السمك الطري المغذي والصحي بدل أن تستثمره دول آخرى تستنزف خيراتنا من أعالى البحار ، والمستقبل كما يتوجه في الاستراتجيات للبر يضع في الإعتبار البحر القادر على توفير عدة مناصب للشغل وللصناعات البحرية المتعددة والمختلفة ، ناهيك عن قيمة الأعشاب البحرية والأسماك التي تحتوي على المعادن المفيدة للجسم البشري مثل الصوديوم والكالسيوم والمنغنيسوم واليود.
اعتمد الإنسان منذ عهد عهيد على الترحال من مكان إلى مكان وإن شط المزار وبعدت الديارفبنى وشيد المراكب والسفن المبحرة في البحار والمحيطات ، من أجل إقامة روابط تجارية بين الشعوب الأرض ، حيث يتم تبادل السلع والخبرات والمعرفة الإنسانية ، فتم اكتشاف في المنطقة الأوربية والآسيوية على مدار التاريخ طرق للمواصلات ونقل السلع مما سمي ” بطريق الحرير ” أو ” طريق التوابل ” والحرير والتوابل من أهم التجارات التي عرفها التاريخ الإنساني ـ أنذاك ـ ووظفت خلالها المسارات البحرية التي تمحورت حولها روابط هذه التجارة ، ولم يكن الهدف اقتصادي وتجاري مرتبط بنقل البضائع فحسب بل عملت على نقل المعارف والثقافات والمعتقدات من جراء التعاون وتبادل المصالح والتواصل مما خلف تأثيرا قويا في الحضارات المختلفة والمتباينة ، فكانت تجارة الحرير والتوابل رائجة إلى جانب التلاقح الفكري والثقافي الذي غذا مسار العقل البشري على مدار التاريخ المديد .
لم تكن الرحلات البحرية هينة بل كانت محفوفة بأهوال البحر وعواصفه الهوجاء ، وتعقب القرصان، كما أن هناك خوافا ودهشة تلازم المرء وهو يهم باقتحام ومغامرة في البحر :
لا أركـــب البـحــر أخشى علـــي فــــيــه الـــمـــعــاطــــيـــب
طـــين أنــــا وهــــــومــــاء والــــطــــيــــن فـــي الـــمـــاء ذائـــب
أما عندما يكون البحر ناعماهادئا خاليا من العواصف ” فكل ريس بطل”
تجليات البحر في المجال الأدبي والفني كثيرة وغزيرة ، جسدتها الفنون التعبيرية المختلفة وهي تنقل الصراع الأبدي بين الإنسان والطبيعة ، فهذا امرؤ القيس الذي يعيش في الصحراء يستحضر البحر للتعبير عن لحظة وجدانية تهز جوارحه :
ولـــيــل كمــــوج البــحر أرخــــى سدولـــــه
علــــي بأنــــــواع الــهـــمــــوم لــيـــبــتـــلـــــي
وتصور ألف ليلة وليلة غرائبية وعجائبية السندباد برا وبحرا ، أما رواية ” الشيخ والبحر ” الحاصلة على جائزة نوبل للروائي الأمريكي ” أرنست همجواي ” فتبرز الصراع الأزلي بين الإنسان وقوى الطبيعة ويجسده بطل الرواية العجوز ” ساتياجو ” مع ضراوة أسماك القرش المتوحشة ، تصور الرواية الحياة ومدى قساوتها ثم تشير بجمالية عالية إلى الحضور العبثي الذي يبدو فيما هو جدي ، فقد أمضى العجوز الصياد وقتا طويلا جدا بدون أن يصطاد ولو سمــــكــــة !
ومن الكتاب العرب الذين أنجزوا العدد الهام والوفير في أدب البحر حنا منه وقد قال عن نفسه ( ..البحر كان دائما مصدر إلهامي حتى أن معظم أعمالي مبللة بمياه وموجه الصاخب ) ومن بين روياته” الشراع والعاصفة ” ، الياطر ” ، ” حكاية بحار ” ، ” المرفأ البعيد ” وغير ذلك كثــيـــر.
أما في السينما فعدد كثير من الأفلام العالمية كان موضوعها البحر والصراع مع الطبيعة ، نخص بالذكر شريط ” تيتانيك ” للمخرج الأمريكي جيمس كاميرون ، فبعد أزيد من تسعين عاما على حدث غرق سفينة ” تيتانيك ” حقيقة يصيغ الواقعة سينمائيا مولفا بين الحب والتراجيديا ، في أول إبحار لها يدمر السفينة الباذخة الجمال الغرق في عرض المحيط الأطلسي مخلفة عدة ضحايا من مختلف شرائح المكونة للمجتمع الإنجليزي ، تحاشى المخرج الحرفية الوثائقية للحدث مستحضرا قصة حب بين ” جاك ” الفقير و” روز ” الغنية المنتمية لطبقة النبلاء ، والفيلم يعبر عن الصراع الطبقي ـ كذلك ـ فقد تمت العناية بالأغنياء والكبراء لحظة الخطر وتم إهمال مصير الفقراء ودونهم الضياع والغرق في لجج البــــحــــر .
العلاقة بين الإنسان والبحر دوما قائمة على مستوى الواقع والمتخيل ، فهذا الجسم المائي الهائل أصله قطرة وكم يبدو هادئا وساكنا في الظاهر بيد أن في أغواره تحتدم وتغلي الصراعات وتستعر، ما أشبهك أيها البحربالإنسان ، كلاكما يحمل في تجاويفه أسرارا لا تعرفها حتى نفسه !
كلما تأمل الإنسان في البساط الأزرق وجد نفسه ، واعتلته أحاسيس السكينة والسلام ، ولعل هذه المشاعر متعلقة بالماء واللون الأزرق ، فقضاء وقت قرب الماء يهدىء النفس ويرخي الأعصاب ويفرغها من حدة وضغط التوتر السام والضار ، فالبحر حياة ، وفي العودة إلى أحضان الطبيعة نقاهة وعـــــلاج .
وانت في خلوتك حوار البحر وارهف السمع لأمواجه ولأمواجك الداخلية ، فالبحر ينظفك ويطهرك من الداخل ويبعدك عنك تعكر المزاج ويكسبك صفاء ، ويكبح كل اكتئاب أو طيف لفكرة سوداء ، البحر يجدد طاقتك ويسكب في روحك سماحة الماء والضوء وحب التعلق بالحــــيـــــاة.
*المصطفى كليتي