لم تعد الصحافة في العصر الرقمي مجرد نشاط إعلامي قائم على نقل الخبر وتفسيره، بل أضحت فعلاً مركبًا يتداخل فيه التكنولوجي بالاجتماعي، وتتصارع ضمنه القيم المهنية مع إكراهات السوق وآليات المنصات. وفي العالم العربي، الذي يعيش حالة من التحول الإعلامي غير المتكافئ، برزت الصحافة الإلكترونية بوصفها ظاهرة جديدة تحمل إمكانات هائلة، لكنها في الوقت نفسه مكشوفة على تحديات بنيوية تجعل مستقبلها رهينًا بجملة من التحولات المتسارعة.
في مقدمة هذه التحولات تبرز منصات التواصل الاجتماعي بوصفها الفضاء الأبرز الذي تمارس فيه الصحافة اليوم أدوارها، ليس باعتبارها مجرد أداة نشر، بل بوصفها مجالًا لإنتاج المحتوى ذاته، وإعادة تشكيل علاقة الصحفي بالجمهور. فمنصة مثل “تويتر” أو “فيسبوك” أو “يوتيوب” لا تتيح للصحفي فقط إيصال مقاله أو تغطيته، بل تفرض عليه منطقًا مختلفًا تمامًا في صياغة المعلومة، وتضعه في منافسة مباشرة مع فاعلين آخرين: مؤثرون، ناشطون، مواطنون عاديون يملكون هاتفًا ذكيًا وقدرة على جذب الانتباه.
لقد انتقلنا من صحافة تنتج الخبر ثم تبحث عن الجمهور، إلى مشهد تكون فيه عناوين الأخبار وأولويات المعالجة رهينة بتفاعل الجمهور ذاته. إن التفاعل بات هو بوابة الوصول، وكلما ارتفع عدد “الإعجابات” و”المشاركات” و”إعادة التغريد”، زادت حظوظ المنشور في الانتشار. وهذه المعادلة، وإن كانت تمنح قوة للجمهور لم تكن ممكنة في الزمن الورقي، فإنها من جهة أخرى تُضعف سلطة المعايير المهنية، وتدفع الصحفي إلى تكييف محتواه مع مزاج الخوارزميات، بدلًا من أن يُراكم المعرفة أو يُشكل الرأي العام على قاعدة رصينة.
يجد الصحفي العربي نفسه اليوم داخل هذا الفضاء محاطًا بأسئلة لا تنتهي: كيف يكتب محتوى جذابًا دون أن يفرّط في المصداقية؟ كيف يصمد أمام سيل التزييف، وفوضى المعلومات، وسرعة التحولات؟ كيف يوازن بين سطوة الصورة، وسحر العنوان، وعمق المضمون؟ كيف يحافظ على استقلاليته وهو مضطر أحيانًا للتماهي مع ما يُطلب منه ضمن خوارزميات المنصة أو توجهات الممول؟ إن هذه الأسئلة ليست نظرية، بل هي ما يشكل الحياة اليومية للصحفي الرقمي في العالم العربي، الذي بات ينتقل من تغطية حدث إلى التفاعل مع “ترند”، ومن مساءلة السلطة إلى مناشدة الجمهور بالضغط على زر الإعجاب.
في هذا السياق، لم يعد بالإمكان الحديث عن صحافة مستقلة بالمعنى التقليدي للكلمة، بل عن استقلال نسبي يتحدد داخل شبكات معقدة من المصالح، تبدأ من الرغبة في الانتشار، ولا تنتهي عند حدود الرقابة السياسية أو الاقتصادية. فبعض المنصات الرقمية، رغم ادعائها الحياد، تمارس نوعًا من الهيمنة الناعمة على ما يجب أن يُقال، أو على الأقل، ما ينبغي أن يُخفف، أو يُموّه، أو يُعاد ترتيبه بلغة أقل صدامًا. وهكذا تتحول الرقابة من سلطة خارجية واضحة إلى خوارزمية صامتة تتحكم في الظهور، وتقصي من لا يلتزم بشروط اللعب.
لكنّ هذه الصورة القاتمة لا تحجب ما فتحته المنصات من آفاق للتعبير، والمساءلة، وكسر الاحتكار الإعلامي. فلأول مرة، صار بإمكان الصحفي المستقل أن يُسمع صوته دون المرور عبر المؤسسات، وأن يصنع تأثيره بمقال تحليلي، أو تقرير ميداني، أو مقطع قصير مُتقن. هذه المساحة التي يتيحها الفضاء الرقمي لا تخلو من المخاطر، لكنها تظل فرصة تاريخية لخلق صحافة بديلة، أكثر قربًا من نبض الناس، وأقل خضوعًا للمركزيات الإعلامية التقليدية.
ولعل أحد أبرز المفارقات في هذا المشهد، هو أن الصحافة الإلكترونية التي جاءت لتُحرر الكلمة من الورق، أصبحت اليوم بحاجة ماسة إلى تحرير نفسها من عبودية المنصة. فالصحفي، مهما بلغ من الكفاءة، لا يستطيع مجابهة مد الخوارزميات وحده، ما لم تُبنَ ثقافة مهنية جديدة، قائمة على التدريب المستمر، والتمكين الرقمي، والدفاع عن الحق في الوصول إلى المعلومة، وضمان الأمان الرقمي للعاملين في الحقل الإعلامي.
ومع ذلك، يبقى الرهان الأكبر هو في الجمهور ذاته. فصحافة المنصات لن ترتقي إلا بوعي المتلقي، القادر على التمييز بين المعلومة والرأي، بين التضليل والتحقيق، بين المحتوى الجاذب والمحتوى الجاد. ولا سبيل إلى هذا الوعي إلا عبر تعميم التربية الإعلامية، وإدماجها في المدارس والجامعات، بوصفها جزءًا من المواطنة الرقمية لا مجرد ترف معرفي.
إن الصحافة الإلكترونية في العالم العربي ليست في أزمة وجود، بل في لحظة تشكّل، تبحث فيها عن ذاتها وسط ضجيج المنصات، وعواصف السرعة، وضغوط السوق، وتقلبات السياسة. مستقبل هذه الصحافة لن يُبنى على التمنيات، بل على القدرة الجريئة في طرح الأسئلة، والتجريب، والانفتاح على أدوات جديدة، دون التفريط في جوهر الرسالة: قول الحقيقة مهما كانت مُكلِفة.
الباحث صهيب الهاشمي











