اقلام واراء
لن يختلف اثنان، وفي اعتقادي المتواضع، في كون عالمنا قبل كورونا لن يكون هو عالم ما بعد كورونا. صحيح فالعالم عاش العديد من الحروب والأوبئة، الخ، لكن خرج دوما منتصرا على كل هذه الهزات وبصيغ متعددة. وباء اليوم ضرب كل أنحاء العالم. مفاهيم وتصورات وبنيات اقتصادية وتقنية وعلمية واجتماعية، سيعرفها العالم سواء تخلص من الوباء أو بقي يسكن معنا. الإنسانية اليوم متعبة ومرهقة بهذا الوباء. هزات نفسية عديدة عاشها وسيعيشها الناس جمعاء أثناء وبعد كورونا. فهل من الممكن التغلب عليها أو على الأقل التخفيف من عنفها؟ وكيف؟.
أكيد أن كل مهنة أو حرفة، أو أنشطة، الخ، لها صلة بكيفية محاربة هذا التعب، من الممكن لها أن تساعد الإنسانية للتخلص مما أصابها، بشكل جزئي أو كلي. الترفيه والفنون ككل، سيكون لهما ذلك الدور البارز في هذا المجال. النفس المرهقة ومن أي زاوية (طبية أو دينية أو تربوية،الخ)، مطالبة بالترفيه عن نفسها.
السينما بكل تأكيد، وفي اعتقادي المتواضع، سيكون لها مستقبل آخر غير الذي نعيشه اليوم وحتى ما قبل كورونا. ستساهم في قول أشياء عديدة وبصيغ فنية عديدة للناس جمعاء. صحيح، السينما اليوم، تعرف مزاحمة قوية من لدن وسائط تكنولوجية/رقمية جديدة ومبهرة وتمارس سلطة جذابة على الجميع. لكن، الفرجة داخل القاعة وفي زمن انتكاسة الإنسان بالوباء، لن يجد شبيها لها. الإحساس الجماعي بفرجة جماعية وتجاذب الحديث قبل وبعد مشاهدة فيلم سينمائي في قاعة كبيرة وأمام شاشة هي الأخرى كبيرة، وفي “ظلمة/نور” الفرجة، الخ، لن يتحقق على أيدي أي شكل من أشكال التكنولوجيات الحديثة التي لا يمكن التنكر لإيجابياتها وخدماتها، لأنها إن بقيت وحدها و”ماتت” الفرجة الجماعية/الإنسانية، فسنكون أمام عزلة فردية فتاكة وقاتلة للإنسان وإنسانيته التي هي الرأسمال الحقيقي له وعبر التاريخ.
لن تموت السينما…إنها رهان جديد وسيكون لها الأثر القوي في جر الناس من القاع الذي تقودنا إليه الرأسمالية المتوحشة و”عالمها” الذي تفرش له الطريق دون أنسنته وجعله مرهونا بالضمير الجمعي عوض الضمير المتعلق ب”الأنا”. من منا اليوم، وفي ظل هذا الوباء اللعين ومخلفاته، من لا يرغب في لقاء فني وثقافي وتربوي واجتماعي وإنساني حميمي وهادف إلى إعادة الثقة في هذا الذي تبقى لنا وفي قلوبنا من محبة ورغبة في أن نعيش في عالم خال من الخوف والرعب ؟.
الإنسانية، تمر اليوم من وضعية جد معقدة. لن تتغلب على خوفها الذي جعلها تعيش ضمن عزلة لا إنسانية، إلا بالبوح. البوح بلغة الصورة والحكي عما بدواخلها، كمقدمة لزعزعة كل ما يحاك ضدها بشكل مقصود أو غير مقصود.
السينما، ساهمت وعبر التاريخ في انتشال الإنسان مما تعرض له من حروب مدمرة ومن أوبئة بها أرخ المؤرخون للعديد من الهزات التي هزت الإنسانية وأبعدتها عن حياتها المرغوب فيها. بالسينما وفرجتها الجماعية/الإنسانية، من الممكن عقلنة وأنسنة من يرغب في تحويل هذا العالم الواقعي الإنساني إلى مجرد عالم افتراضي قد يساهم في تجفيف الأحاسيس والقيم النبيلة والجميلة والتي تشكل مشتركا جماعيا به تغلبت الإنسانية على محن عديدة مرت بها.
الإنسانية متعبة اليوم. تعبها هو اليوم “رأسمال” من قد “يفكر” فقط بمنطق الربح الرابح والآتي من ألم وآهات هذه الإنسانية، لاسيما وقد تعلم (هذا البعض القليل)، أن من ألم الناس يتحقق “أمله” هو.
التربية والتعليم والفنون ورائحة التعلم الجماعي وكل ما له صلة بالبعد العميق للإنسان، سيساهم بكل تأكيد في جعل الناس تفكر في كيفية العيش الجماعي المشترك وفي أفق التغلب على كل الآفات التي خلقها هذا البعض بشكل مقصود أو غير مقصود، أي جعل عالم اليوم يعيش وضعا وبائيا جماعيا غير مسبوق. من هنا من الممكن الرهان أيضا على التربية والتعليم، لكونهما بوابة حقيقية لمعالجة العديد من الآفات الفردية والجماعية. فمن منا اليوم من لم يكتشف حقيقة الدور البارز الذي تقوم به المدرسة سواء قبل أو أثناء أو بعد كورونا ؟ (رهان لا يعوض).
رهاننا على السينما للمساهمة في التغلب على مخلفات الوباء، رهان تربوي وثقافي وفني وإنساني، راغب في ترسيخ قيم إنسانية جماعية نحن في أمس الحاجة إليها.
د.الحبيب ناصري/المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين
الدار البيضاء سطات.